ثقافة الإصغاء أو تربويات الحوار
تظهر بين آونة وأخرى دراسات يعدّها أفراد متخصصون في الإعلام أو معاهد أبحاث عن مستوى وطبيعة الحوارات المتلفزة في العالم العربي،
وهي إذ تفحص عيّـنات من أساليب الحوار تحت المجهر النفسي أولاً،
غالباً ما تتوصل إلى أن العرب لم يتدربوا حتى الآن بما يكفي على نعمة الإصغاء للآخر،
إذ سرعان ما يتحوّل الديالوج إلى مونولوج،
وتبدو المقاطعات المتعاقبة بلا أي استئذان كما لو أنها التعبير الأدق عن تربويات الاحتكار والنرجسية والإقصاء،
وبعض الحوارات المتلفزة يتحوّل بعد الدقيقة الأولى، بل بعد الجملة الأولى إلى سوق نحاسين،
تعلو فيه المطارق على أي صوت ويضيع المشاهد أو المستمع بين صرخات يعتقد من يطلقونها أن الصوت الصاخب هو المنتصر أخيرا،
مما يعيد إلى الأذهان تلك المقولة التي نسبت إلى «عبد الله القصيمي» وهي أن أمة ما قد تتحول إلى ظاهرة صوتية عندما يفرغ الواقع من كل مضامينه،
ونتائج دراسات من هذا النوع تستحق المعاينة والاستقراء ثقافياً وسايكولوجيا،
فالأفراد في النهاية لا ينتجون أنفسهم بقدر ما هم نتاج وعي وتاريخ ومكوّنات تربوية عامة،
لهذا قد لا يسمع المرء غير صدى صوته وهو في ذروة ما يظن أنه الحوار مع الآخر،
لكن وللأسف تتحول معظم هذه الدراسات إلى مادة خام غير قابلة للاستثمار المعرفي وتُطوى ملفاتها شأن سابقاتها،
فالدراسات على اختلاف ميادينها وبالتحديد ما هو إعلامي منها ليست غاية، بقدر ما هي وسيلة للكشف والاستبطان،
كي يُتاح للناس بعد تشخيص أحوالهم أن يعيدوا النظر بما اعتقدوا أنه اليقين،
خلاصة هذه الدراسات أو أغلبها هي أن تربويات الحوار لا تزال هشّـة وهامشية، بحيث تسقط في أول اختبار ميداني،
فأكثر الناس ثرثرة عن الديمقراطية وحق الآخر في الاختلاف يتحوّلون خلال لحظات إلى كائنات عدوانية،
قد تلجأ إلى هجوم استباقي يقلل من شأن الآخر ويسعى إلى إحراجه أو النيل من شخصه،
بحيث سرعان ما يسدل الستار على هذه الكوميديات الموسمية المتلفزة،
ومن أخطر النتائج عزوف المشاهدين والمستمعين عن مواصلة الإصغاء إلى ما يدركون أنه مجرد مهاترات
أو اشتباك بالكلمات بدلا من اللّكمات
وما ننساه هو أن هذه الحفلات الأشبه بالزار هي أكاديميات غير معلنة، يتتلمذ عليها جيل كامل وهو إذ يضبط الآباء والبالغين متلبسين
بعاستغفر ربك مواعظهم يفقد الثقة بهم وبكل ما يصدر عنهم. إنها دراسات قيمة، لكنها للعرض فقط في الواجهات وليست للاستعمال.
فـــــــــــــــــــــــــتــــــــــــــــــــــــــح