الحال مع القرآن في رمضان
الحمد لله القائل في كتابه : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185) . والقائل : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ × فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ × أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان:3 ـ5) . والقائل : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) .
والصلاة والسلام على رسوله الكريم الذي خصَّه الله بوحيه ، وأنْزل عليه خير كتبه ، القائل : ( خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه ) ، ثمَّ أُتمِّم الصلاة على آل البيت الأطهار ، وعلى أصحابه البررة الأخيار ، ثمَّ على التابعين لهم ما تعاقب الليل والنهار ، أما بعد :
فلقد خصَّ الله هذا الشهر الكريم بخصائص ؛ منها : أنه أفضل شهور السنة ، وفيه ليلة القدر ، وفيه نزل القرآن .
ونزول القرآن بنوعيه الجملي والابتدائي كان في ليلة القدر .
أما الجملي فقد أخبر عنه ابن عباس ( ت : 68 ) رضي الله عنهما بقوله : " أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا ، فكان الله إذا أراد أن يُحدِث في الأرض شيئًا أنزل منه ، حتى جمعه " . وهذا القول ثابت عن ابن عباس ، وله روايات متعددة .
وأما ابتداء النُّزول ، فقد نُسِب للشعبي ( ت : 103 ) ، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان)(البقرة: من الآية185) .
وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان:3) .
وهداية الناس والبيان الهدى لهم ، ونذارتهم إنما هي في القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وليس يمتنع أن يُراد المعنيان معًا في هذه الآيات ، فتكون دالَّة على النُّزولين ؛ إذ ليس بينهما تعارض ولا تناقض ، والقولان إذا صحَّا في تفسير الآية ، والآية تحتملهما ، ولم يكن بينهما تعارض ، فإنه يجوز حمل الآية عليها كما قرَّره العلماء .
وعلى كل حال فإن التلازم بين القرآن وشهر رمضان ظاهر في هذه الآيات ، فَشَرُفَ الشهر بنُزول القرآن فيه ، لذا صار يُسمى : شهر القرآن .
أحوال الناس في قراءة القرآن
يقع سؤال بعض الناس عن أيهما أفضل ، قراءة القرآن بتدبر ، أو قراءته على وجه الحدر ، والاستزادة من بكثرة ختمه إدراكًا لأجر القراءة ؟
وهاتان العبادتان غير متناقضتين ولا متشاحَّتين في الوقت حتى يُطلب السؤال عن الأفضل ، والأمر في هذا يرجع إلى حال القارئ ، وهم أصناف :
- الصنف الأول : العامة الذين لا يستطيعون التدبر ، بل قد لا يفهمون جملة كبيرة من آياته ، وهؤلاء لاشكَّ أن الأفضل في حقِّهم كثرة القراءة .
وهذا النوع من القراءة مطلوب لذاته لتكثير الحسنات في القراءة على ما جاء في الأثر : (( لا أقول " ألم " حرف ، بل ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف )) .
-الصنف الثاني : العلماء وطلبة العلم ، وهؤلاء لهم طريقان في القرآن :
الأول : كطريقة العامة ؛ طلبًا لتكثير الحسنات بكثرة القراءة والخَتْمَاتِ .
الثاني : قراءته قصد مدارسة معانيه والتَّدبر والاستنباط منه ، وكلٌّ بحسب تخصصه سيبرز له من الاستنباط ما لا يبرز للآخَر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وأعود فأقول : إنَّ هذين النوعين من القراءة مما يدخل تحت تنوع الأعمال في الشريعة ، وهما مطلوبان معًا ، وليس بينهما مناقضة فيُطلب الأفضل ، بل كلُّ نوعٍ له وقته ، وهو مرتبط بحال صاحبه فيه .
ولا شكَّ أنَّ الفهم أكمل من عدم الفهم ، لذا شبَّه بعض العلماء من قرأ سورة من القرآن بتدبر كان كمن قدَّم جوهرة ، ومن قرأ كل القرآن بغير تدبر كان كمن قدَّم دراهم كثيرة ، وهي لا تصلُ إلى حدِّ ما قدَّمه الأول[b]